غير مصنف

استخدام الحمام الزاجل في المراسلات الحربية والتجارية

ـــــــــ د. صالح العطوان الحيالي -العراق 29-12-2017

منذ عصر الفراعنة، أي قبل أكثر من خمسة آلاف عام ق.م، عُثر على نقوش وآثار تدل على استخدام الفراعنة للحمام الزاجل. والثابت تاريخياً أن المصريين والعرب هم أول من استخدم الحمام الزاجل في هذا المجال بين أقطار العالم الإسلامي والعربي. وبعد الفتح الإسلامي لمصر في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) نُقل الكثير من «الزاجل» إلى مصر.
اهتمّ المصريون بتربية أنواع مختلفة من الحمام، خصوصاً الزاجل. وفي عصر الدولة الفاطمية كانت بداية ازدهار «الزاجل» وتربيته واستخدامه في نقل الرسائل وكادت هذه الهواية تندثر في القرن التاسع عشر عندما أنشأ جيش الاحتلال البريطاني في مصر والسودان، إبان الحرب العالمية الثانية، محطات تربية الحمام الزاجل لأن الجيش كان يستخدمه في نقل المعلومات السرية التي كان يخشى أن يلتقطها الألمان إذا استخدم الرسائل اللاسلكية في نقلها.
مع انتهاء الحرب انتفت الحاجة إلى الحمام الزاجل في الجيش البريطاني فباع سلالاته للهواة المصريين، ما ساعد على تشجيع هواة تربية الحمام الزاجل على إنشاء أول جمعية لحمام السباق في مصر والشرق الأوسط في العام 1945.
أول رسالة حملها الحمام في التاريخ كانت عندما أرسله سيدنا نوح ليبحث عن الأرض التي يستطيع الرسو عليها بسفينته. فقام الحمام بتلك المهمة وعاد وهو يحمل غصن الزيتون، ومن هنا أصبح الحمام وغصن الزيتون رمزاً للسلام
الحمام الزاجل هو أول سبل نقل الأنباء التي عرفها البشر، نُقلت عبرها الرسائل من مكان لآخر، واستخدم الحمام الزاجل كل من الفراعنة والإغريق والفرس والرومان والعرب والأوربيين والصينيين لقرون عديدة، فقد استخدم الإغريق الحمام لإرسال أسماء الفائزين في الألعاب الأولمبية إلى المدن الداخلية بربط الرسالة في أرجل الحمام، كما أن الفرنسيين كانوا يرسلون رسائلهم باستخدام الحمام الزاجل أثناء الحصار على باريس. وعند معرفة الألمان بأمر تلك الرسائل قاموا بقتل الحمام مستعينين بالصقور المدربة لذلك، لمنع الرسائل من الخروج من المدينة المحاصرة، أما المسلمون فقد استخدموا الحمام الزاجل في القرن الثالث الهجري بشكل كبير، واتخذه الخليفة العباسي كوسيلة للتجسس، أيضاً الأيوبيون والفاطميون والمماليك استخدموه على نطاق واسع، لا سيما في فترة الحروب الصليبية. وما زالت هذه وسيلة نقل الرسائل عبر الحمام الزاجل تعتبر لغزاً للعلماء، ويدور حولها الكثير من التساؤلات، فبعض الحمام الزاجل قد يموت ولا يصل للهدف المحدد، كما أن الضباب يُربك الحمام فيضل طريقه، فإن الحمام لا يجيد معرفة الطريق وسط الضباب، حتى لو كان على مسافات قصيرة (ميلين أو ثلاثة)، وفي أحيان أخرى قد ينجذب لسرب من الطيور فيغير من وجهته. ومن المعروف أن الحمام يُدرب على السباق ليعود إلى موطنه باتجاه معين، فمن خلال تمييز الحمام للاتجاهات تتمكن من العودة إلى موطنها، ويقال إن غروب وشروق الشمس هو الذي يهدي الحمام لتلك الاتجاهات، حتى أنها تضل طريقها ليلاً، وقال أخرون بأن الطيور عادةً تحلق في خطوط مستقيمة بإتجاه موطنها، ولكن هذا التفسير لا يكون صحيحاً دائماً، وهنالك العديد من التفسيرات العلمية التي حاولت توضيح سبل عودة الحمام الزاجل لموطنه وكيفية تحديده لطريقه وكيف يقوم بإيصال الرسائل

ذكر أحد الرحالة الانجليز في القرن السابع عشر أن سماء سورية خلت من الحمام لوقت ما أواذر ذلك القرن وأن الطير العابر لم يعد آمنا كما كان من قبل ، والسبب في ذلك حادث يبدو لنا طريفاً ولكنه تسبب في افناء أعداد كبيرة من الحمام ، ذلك أن حمامة وقعت في شباك صياد أثناء طيرانها بين الاسكندرية وحلب ووجد الصياد رسالة مربوطة رجلها كان قد أرسلها تاجر أوروبي إلى وكيله الحلبي يخبره فيها بارتفاع أسعار جوز العفص في الأسواق الأوروبية ويطلب منه أن يرسل له كميات كبيرة منه ، فقام الصياد بتسليم الرسالة لتاجر سوري محلي عمل على شراء كمية كبيرة من الجوز وأرسلها إلى أوروبا وحصل منها مبلغاً كبيراً من المال .
وجد التاجر أن في صيد الحمام فرصة كبيرة للربح ففكر بالحصول على كافة الرسائل المتبادلة في سماء سورية ، لكن أخبار خطته لم تبق طي الكتمان كما كان يأمل ، فقد سبقه زملاؤه من التجار واستأجروا صيادين لصيد الحام الزاجل ونصبوا الشباك والمصائد في طريق طيرانه ، وقتلوا أعداداً كبيرة منه .
لم ينته الأمر ويعود للحمام بعض اطمئنانه وتصبح أجواء بلاد الشام أقل خطراً عليه إلا بعد أن توقف التجار الأوروبيون عن استخدامه على اعتبار أنه لم يعد وسيلة مناسبة للمراسلات بانتظار إيجاد وسائل أكثر فاعلية .
وللحمام الزاجل عند العرب تاريخ طويل فهم من أولى الأمم التي عرفت أهميته وربته واهتم بأنسابه ووضعت الكتب في طبائعه وأمراضه وعلاجه ، وقد ذكر الجاحظ اهتمام العرب وولعهم بالحمام الزاجل ، وكان عندهم دفاتر بأنساب الحمام كأنساب العرب ، وأنه كان لا يمتنع الرجل الجليل ولا الفقيه ولا العدل من اتخاذ الحمام والمنافسة فيها والأخبار عنها والوصف لأثرها والنعت لمشهورها .
وكان البريد الذي أسسته الأمويون يعتمد الخيول والجمال والبغال وتبادل الإشارة بالنيران والدخان والمرايا والطبول في إيصال الأخبار والمعلومات العسكرية من وإلى مركز الخلافة ، ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية وزيادة حروبها وفتوحاتها وكثرة الفتن الداخلية والقلاقل ومحاولات انفصال الأقاليم عنها ، ومع ازدياد مصادر الثروة وتنوعها وكثرة مؤسسات الدولة ودواوينها صار لا بد من وسيلة أكثر كفاءة وسرعة لضمان أقصى فاعلية لعمل ( ديوان البريد ) الذي يضمن عمله اتصال أطراف الدولة الواسعة ببعضها وربطها بالعاصمة ، لذلك أدخل الخلفاء العباسيون استخدام الحمام الزاجل في البريد لما يمتاز به من السرعة الفائقة التي تصل إلى حوالي سبعين ميلاً في الساعة ، ولسهولة إعادة نقله للأماكن التي ستطلقه مرة أخرى وانخفاض كلفة تربيته قياساً بالجياد والإبل ولتكاثره السريع وكذلك لطيرانه دون الحاجة لدليل أو مرشد ولدقته في الوصول إلى هدفه وأيضاً لجمال شكله وألفته ، وذكر الحميري في ” الروض المعطار ” أن خلفاء بني العباس تنافسوا في اقتناء الحمام والعناية به وتوسيع دوره وتحسين نسله واخضعوه لمراقبة دقيقة ونظموا سجلات بحركته وخصصوا له مربين مهرة يتقاضون رواتب عالية .
وربما كان في التغني بالحمام في الشعر العربي القديم والطلب إليه إيصال الشوق والرسائل للأهل والأحبة ما يدل على أن العرب استعملوه في أوقات مبكرة ، لكن الثابت أنهم لم يعتمدوا عليه في مراسلاتهم بشكل منتظم ولم يخصصوا له الموظفين إلا مع الخليفة المهدي ثالث خلفاء بني العباس الذي كان أول من ادخل استخدام الحمام في نقل البريد ، ويتم ذلك عادةً بأن تُكتب الرسالة على ورقة رقيقة وتُلف بإحكام وتوضع داخل أنبوب صغير يُربط برجل الحمامة.
ويُروى أن المعتصم العباسي علم بانتصار جيشه على بابك الخرمي وأسره له عن طريق الحمام الذي أرسله قائد جيشه من الجبهة إلى سامراء .
ويذكر الحميري أنه بلغ من أهمية الحمام الزاجل أن وصل ثمن الطائر منه أيام العباسيين إلى سبعمائة دينار ، وقد بيعت حمامة من خليج القسطنطينية بألف دينار ، وكانت بيضة الطائر المشهور ” بالفراهة ” تباع بعشرين ديناراً ، ولكن الفاطميين تجاوزوا العباسيين باهتمامهم بالحمام الزاجل بأن وضعوا له ديواناً خاصاً كما ذكر القلقشندي في ( صبح الأعشى ) وابتكروا وسائل للتغلب على إمكانية وقوع الحمام الذي يحمل الرسائل بأيدي العدو التوصل لمعناها ، كما استحدثوا من أجل الحمام ورقاً وأقلاماً خاصة ، فالحمامة طائر صغير الحجم غير قادر إلا على نقل جرم صغير من الرسائل فبدت الحاجة إلى صنع نوع خفيف من الورق وإعداد أقلام صغيرة الحجم لكتابة والحروف والكلمات بأصغر نوع ممكن وصناعة مظاريف من الفضة الرقيقة لوضع الرسائل ، ناهيك بالإسناد الضروري لحماية سير تلك الحمامة حتى لا تتعرض لشباك الصياد ، كما ذكر يوسف الشيراوي في الاتصالات والمواصلات في الحضارة الإسلامية .
كان الحمام يقطع آلاف الأميال يومياً باتجاهات متلفة في انحاء الامبراطورية الإسلامية ساعده في ذلك سلسلة الأبراج التي نصبتها الدولة والتي يبعد الواحد منها عن الآخر حوالي خمسين ميلاً وكانت مجهزة لاستقبال الحمام وإراحته أو استبداله ، وكانت القوافل الكبيرة تحمل معها أقفاص الحمام ، ترسل بواسطتها رسائل إلى مراكزها في كل مرحلة من رحلتها لكي ترشد القوافل الصغيرة التي تسير على نفس الدرب أو لكي تبلغ مراكزها بتعرضها لخطر ما فتطلب النجدة من أقرب مركز عبرته ، أو أنها تخبر المراكز التي تنوي الوصول إليها بمواعيد وصولها ونوع بضاعتها وأثمانها ومالكيها ..الخ ..لكي يستقبلها التجار المعنيون بالأمر .
وقد دأب التجار الأوروبيون الذين كانوا يصلون الاسكندرية على إطلاق الحمام إلى قناصلهم في حلب يعلمونهم بموعد وصول سفنهم ، وكانت الرسائل تصل من الاسكندرية إلى حلب خلال أربع أو خمس ساعات وهي المسافة التي يحتاج الجواد إلى أربعة أو خمسة أيام لقطعها .
استمر استخدام الحمام في المواصلات حتى عهد قريب وكانه له دور مهم أثناء الحرب العالمية الثانية ، حيث استخدم بكثرة من قبل الجيوش المتحاربة ، وكثيراً ما كانت أبراج الحمام تشاهد بالقرب من المطارات الحربية ، حيث كان الطيارون يحملون معهم أعداداً منها يبعثون معها رسائلهم قبل وبعد الاشتباك مع العدو لضمان وصول تقاريرهم إذا ما أخفقت الطائرات في العودة لقواعدها ، وتناقلت الأخبار قصصاً كثيرة عن طيارين أنقذهم الحمام بعد أن سقطت طائراتهم في مياه البحار ، إذ يحاول الطيارون عادةً الخروج من تلك الطائرات مع زوارق المطاط وأقفاص الحمام التي ترافقهم دائماً وعن طريق الحمام يرسلون لقواعدهم رسائل تحدد مواقع سقوطهم لكي يتم انتشالهم .
ويعتبر استخدام الحمام من قبل القوات الجوية محدوداً بالقياس إلى حجم استخدامه الواسع من قبل المشاة والبحرية والإدارات المدنية ، إذ أنه حتى خمسينات القرن الحالي ورغم انتشار استعمال التلفون والسيارة والقطار في بريطانيا فقد كانت وزارة التموين البريطانية تطلق يومياً ألفاً ومائتين وخمسين حمامة إلى مختلف الاتجاهات حاملة بريدها الرسمي …

أضف تعليق